الرئيسية مقالات متنوعة "وكان أبوهما صالحًا" .. مبدأ تربوي اجتماعي

"وكان أبوهما صالحًا" .. مبدأ تربوي اجتماعي


2022-05-23

                                                                     بقلم الدكتور/ زكريا خنجي

 

في سورة الكهف، وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام والرجل الصالح، حدثت بضعة أمور منها موضوع خرق السفينة، وموضوع قتل الغلام وأخيرًا موضوع الجدار الذي أقامه الرجل الصالح على الرغم من شح وبخل أهل القرية إذ إنهم حتى لم يكرموا سيدنا موسى عليه السلام والرجل الصالح في وجبة أو في أي شيء آخر بسيط، وعلى الرغم من ذلك فقد وجد الرجل الصالح جدارًا يتهاوى ويتساقط فأقامه وأصلحه ثم هم بالانصراف.

وهذه الآيات تحدثنا فيها وعلقنا عليها في مقال سابق، وركزنا على موضوع التعلم والتعليم المستدام، إلا أن الموضوع له أبعاد أخرى كثيرة، منها موضوع الجدار وإقامته على الرغم من المعاملة السيئة التي لاقاها سيدنا موسى عليه السلام والرجل الصالح من أهل القرية، ونعتقد أن هذا الموضوع له أبعاد تربوية مجتمعية مهمة تحتاج إلى وقفات كثيرة، وسنحاول أن نركز على جانب واحد في هذا المقال، وهو موضوع صلاح الوالدين الذي بسببه حفظ الله سبحانه وتعالى وحافظ على رزق الولدين ومستقبلهما.

ويعرف الصلاح لغويًّا بمعنى الاستقامة والاعتدال، فيقال: أصلح الشيء بعد فساده، أي أقامه وعدله، ويأتي الصلاح بمعنى الخير والنفع، ويعرف أيضًا أنه ضد الفساد.

يقول تعالى على لسان الرجل الصالح في سورة الكهف الآية 82 (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ  وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي  ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)، وعلى الرغم من الكثير من المعاني النبيلة والمهمة التي وردت في هذه الآية الكريمة، إلا أن الذي يهمني هنا في هذا المقال أمر واحد، وهو: صلاح الأبوين، ونحسب هنا أن الأبوين يعنيان الأب والأم سويًا.

من الملاحظ من الآية الكريمة، إن الرجل الصالح نسب أمر إصلاح الجدار لله سبحانه وتعالى، بينما نسب موضوع تخريب السفينة لنفسه، إذ قال في الآية 79 (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا)، وعندما قتل الغلام قال في الآية 81 (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، ولكنه عندما تحدث عن الجدار قال (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا)، ويقول علماء التفسير إن هذا من باب الأدب مع الله سبحانه، إذ نسب التخريب والقتل إلى نفسه بينما نسب الإصلاح لله سبحانه، ونحن نعلم أن كل الأمور ما تجري إلا بأمر الله سبحانه، وهذا أمر حسن ولا خلاف عليه.

ولكن دعونا ننظر إلى الأمر من جانب آخر، فلماذا نسب الله سبحانه فعل إصلاح الجدار لنفسه، بينما نسب الأفعال الأخرى للرجل الصالح ؟

أعتقد وفي رأي المتواضع أنه أيضًا بسبب صلاح الأبوين (وكان أبوهما صالحًا)، فبسبب صلاح الوالدين جاء الله سبحانه وتعالى بسيدنا موسى عليه السلام والرجل الصالح كل هذه المسافة، ونحن لا نعلم كم سارا ومن أين جاءا، إلا إننا نعلم إنهما ما جاءا إلى هذه القرية إلا لإصلاح الجدار الذي كان آيلاً للسقوط، وكل ذلك بسبب صلاح الأبوين، فحفظ الله سبحانه الكنز أيًا ما كانت للولدين اليتيمين من أجل صلاح الوالدين.

قال محمد بن المنكدر وهو أحد التابعين رحمه الله "إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده (وولد ولده) وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم". وكذلك قال سعيد بن المسيب وهو أحد التابعين رحمه الله "إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي"، لذلك فإنه من الحكمة على الوالدين أن يفهما هذا الحكمة جيدًا "إن كنت تخشى على أولادك فكن صالحًا".

ونحن جميعنا نعلم أن مصطلح (الصلاح) فضفاف جدًا، فما أعتبره أنا صلاحًا قد يعتبره الآخرون نوعًا من أنواع الفساد، وما أراه أنا أنه فساد قد يعتبره الآخرون أنه صلاح وإصلاح، فقد أعتبر أنا أن أخذ قلم من المؤسسة التي أعمل بها من غير استئذان سرقة ولكن قد يجده الآخر أنه من نثريات المكتب وأنه من حقه أخذ هذا القلم، فما الضير في أخذ قلم ربما لا يساوي بضع قروش ؟

وربما هنا نعود إلى أخلاقيات المجتمع، فهل الاقتداء بأخلاقيات المجتمع تعني الصلاح ؟ فهل المجتمع الذي يقر السرقة والزنا والفواحش بكل أنواعها يمكن أن يُعد مجتمعًا صالحًا ؟ ولكن هذا يخالف الآية الكريمة، إذ إن أهل القرية التي كان يعيش فيها الطفلان اليتيمان وأبواهما الصالحان كانوا سيئين وذلك لأن أخلاقياتهم لم تكن ترحب بالضيوف حتى ولو بوجبة صغيرة تسد رمقهم بطريقة أو بأخرى، وهذا هو الظاهر ولم تذكر الآية الكريمة الأمور الأخرى.

بالإضافة إلى أن أخلاقيات المجتمع يمكن أن تتغير بمرور الزمن، فبعض الأخلاقيات والقيم التي كانت تحيط بمجتمعنا ذات يوم أصبحت اليوم من الأمور البالية والتي يعاب عليها من يتمسك بها، وربما يأتي اليوم الذي ينسلخ منه المجتمع من كل القيم والأخلاقيات، فمثلاً: كان للأب مكانه في الأسرة فأتت الدراما والمسلسلات الخليجية لتحاول أن تنسف هذه المكانة، وكذلك الكثير والعديد من القيم والأخلاق التي تحاول مجتمعاتنا اليوم الانسلاخ منها تقليدًا عشوائيًا لما هو حاصل في المجتمعات الغربية.

(وكان أبوهما صالحًا)، الصلاح هنا يأتي مما يراه الله سبحانه وتعالى هو الصلاح، فالقرآن الكريم ذكر الأخلاق في حوالي 1504 آيات، بينما وردت العبادات في حوالي 130 آية، وهذا لا يعني أبدًا أن العبادات أقل شأنًا من الأخلاق، وإنما العبادات والأخلاق الحسنة يتكاملان، فلا يتم هذا إلا بذلك، ولا يتم ذلك إلا بهذا، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق" أخرجه البخاري وأحمد، إذ إن أخلاق الإنسان لا تكتمل في الإسلام إلا عندما يرتبط كل ذلك بمراقبة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يرى ما نفعل ويسمع ما نقول، فعندما نكذب فهو يعلم أننا نكذب، وعندما نسرق أو نغش أو نخون فهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك، ليس ذلك فحسب وإنما لقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من كمال إيمان المؤمنين حسن أخلاقهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم"، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

فإن اتفقنا على هذا المبدأ، فإن ذلك يعني أنه يجب أن نعرض كل أعمالنا وأخلاقياتنا على الفكر والعقيدة الإسلامية، فمن يسرق من المال العام فإن ذلك خيانة للمجتمع والإسلام، أيًا ما كانت السرقة، فمن يسرق فلسًا واحدًا من غير وجه حق كمن يسرق الملايين، وهذا فساد، ومن يخون المؤسسة التي ينتمي إليها بأي صورة كانت فإنها تُعد خيانة وفسادًا، ومن يكذب ويعطي الوعود الكاذبة فإن ذلك فساد وخيانة للمجتمع والدين، وكذلك من يشتم في الشوارع وفي المنزل ويضرب هذا ويحتقر هذا بسبب نسبه أو لونه أو أي أمر آخر فإنه يُعد صورة من صور الفساد وهكذا، فإن استشرت هذه النوعيات من الأخلاقيات والفساد في المجتمعات فإنها حتمًا ستنهار يومًا ما.

ولكن عندما يكون (وكان أبوهما صالحًا)، فإن صلاح الفرد الواحد يمكن أن ينشئ أسرة صالحة، وذات أخلاقيات وقيم رفيعة وثابتة وواضحة، هذه الأسرة المكونة من أب صالح وأم صالحة وبالتالي حتمًا سيأتي الأطفال أيضًا صالحين، لأن الأطفال غرس الأسرة الصالحة، ويقتدون بصلاح الأب والأم.

وعندما يتكون المجتمع من مجموعة أسر صالحة، فإن المجتمع سيكون صالحًا بصورة أو بأخرى، ولكن يجب أن يكون ملاحظًا أننا هنا لا نتحدث عن مجتمعات وأسر مثالية، فنحن لسنا في الجنة، وإنما ربما بعد كل هذا العناء يخرج أحد الأبناء مدمن مخدرات أو الكحول أو ذا أخلاقيات سيئة، وهذا يحدث، وكذلك المجتمعات فإنه ربما تختلط الأمور بعضها ببعض، ففي المجتمعات تختلط الأسر الصالحة ببعض الأسر غير ذلك، فنحن لا ننشد مجتمعات أفلاطونية، وإنما نحن ننشد بصورة عامة أسرًا ومجتمعات صالحة، مبنية على مبدأ آخر من مبادئ الإسلام وهو مبدأ الأخوة والإحسان.

فالسارق لا يسرق خوفًا من الله سبحانه حتى وإن لم يره أحد، فالمال من حق المجتمع والناس الذين يعيشون في المجتمع، وهم إخوته.

والمسؤول لا يغش خوفًا من الله سبحانه الذي يراقبه، فالناس الذين سوف يغشهم هم إخوته الذين سوف يجرم بحقهم إن غشهم. وكذلك بالنسبة إلى الكذب، والخداع وكل تلك الانحرافات الأخلاقية التي يمكن أن يقوم بها، أيًا ما كانت صغيرة أو كبيرة.

(وكان أبوهما صالحًا)، مبدأ تربوي اجتماعي مهم يؤثر بصورة أو بأخرى في إنشاء الأسر والمجتمعات الصالحة التي تتعاضد فيها الأفراد والأسر من أجل الفرد والمجتمع على حد سواء، فكل إنسان يخاف على نفسه وعلى أولاده من الضياع يجب أن يفكر في هذه الآية الكريمة. فيا ترى ماذا سيكون مصير الأولاد الذين يشاهدون انحراف آبائهم ؟ كيف ستكون سلوكياتهم في المجتمع ؟

لا أعرف، ولكن الآية الكريمة توضح.


تواصل معنا


593935