الرئيسية مقالات متنوعة أنواع الإدارات وقصة السمكات الثلاث

أنواع الإدارات وقصة السمكات الثلاث | منصة تدريب اون لاين

أنواع الإدارات وقصة السمكات الثلاث


2022-05-16

بقلم: الدكتور زكريا الخنجي

 

يحكى أنه كان هناك ترعة صغيرة في أطراف قرية صغيرة وكان تعيش بها سمكات ثلاث؛ السمكة الأولى كانت ذات شكلٍ جميل ومعجبة بنفسها جدًا، كما كانت مهملة وكسولة لا تبحث عن طعامها، وتقول: أنا أحب اللعب، ولا أفكر إلا في اللحظة التي أعيشها، وكانت طوال النهار تبحث عمن يمدحها ويمدح جمالها وانسيابية جسمها وما إلى ذلك، ولنسمِ هذه السمكة بالسمكة المهملة.

أما السمكة الثانية فقد كانت سمكة ذكيّة، لكنها كانت مهملة أيضًا ولا مبالية، وكانت تقول عن نفسها أنها تعرف كلّ شيء، وتعرف كيف تدافع عن نفسها في أوقات الخطر، فكانت طوال النهار تمرح مع السمكة الأولى وعندما كانت تجوع تذهب إلى أطراف الترعة وتأكل من بقايا الطعام المرمي والأعشاب المائية وما إلى ذلك، لذلك لم تكن تفعل الكثير، وتترك أمر التدبير للظروف إن جاءت فلا بأس وإن لم تجئ فأيضًا فلا بأس، فكل شيء سيتغير وينتهي، ولنسمِ هذه السمكة بالسمكة الذكية.

أما السمكة الثالثة وإن كانت ليس بذكاء السمكة الثانية إلا أنها لم تكن بإهمال السمكة الأولى أيضًا، إذ إنها كانت مدبّرة وعاقلة وتحاول دائمًا أن تحصل على طعامها بنشاطها وتعبها، وأن تتجنب المخاطر والمغامرات غير المحسوبة، ودائمًا تحسب حسابًا للمستقبل، وتستعد لأي خطرٍ ممكن قبل أن يقع، ولنسمِ هذه السمكة بالسمكة الحذرة العاقلة.

وفي ذات يومٍ، لمحت السمكة العاقلة وهي على أطراف الترعة أن صيادًا قادم للترعة ليصطاد السمك، فهرعت لزميلاتها تحذرهن من مغبة الصياد، فقالت لهن: إن صيادًا قادمًا من بعيد ينوي اصطيادنا، لا بدّ أن نهرب بسرعة.

لم تهتمّ السمكة الجميلة المهملة بكلام صديقتها الحذرة العاقلة، وسخرت منها وقالت: اهربي أنت أيتها الجبانة، أما أنا فلن أهرب وسأنتظر قدوم الصياد وأتناول الطُعم الذي سيُلقيه لي، وربما يعجب بجمالي ويتركني أعيش في هذه الترعة ليستمتع بجمالي.

أمّا السمكة الذكية فقالت: أنا لا أخاف من أي صيّاد، سأكون هنا بانتظاره، ثم أتصرف بما يمليه عليّ ذكائي، وربما أتناول الطُعم ولكن بحذر شديد، لذلك لن يستطيع اصطيادي، فأنا ذكية جدًا فلا يستطيع أي صياد خداعي، لذلك سأتصرف بطريقة ذكية معه.

حاولت السمكة الحذرة العاقلة أن تشرح لهن خطورة الموقف، إلا أنهن لم يهتما بكلامها، فما كان منها إلا أن غادرت وابتعدت عن أطراف الترعة، وعندما حانت لها الفرصة هربت من الصياد إلى الترعة المجاورة.

عندما وصل الصياد الترعة، ألقى بصنارته، فاقتربت السمكة الجميلة المهملة من الصنارة، وأخذت تأكل الطُعم بحذرٍ شديد وهي تنظر للصياد لعله يلتفت إليها ويبهر بجمالها وانسيابية جسدها، إلا أنه عندما شعر الصياد بالسمكة جذب الصنارة بمهارة وسرعة، وشبكها من فمها ورفعها إليه، وأصبحت تتلوى بين يديه ووضعها في السلّة وهي تحاول أن تتنفس إلا أنها في النهاية توقفت عن التنفس، فلم يعجب الصياد بجمالها ولا حسنها وإنما ربما يعجب بطعم لحمها اللذيذ.

لم تبالي السمكة الذكية بهذا المنظر وإنما ذهبت في نوبة من الضحك على غباء السمكة الأولى، وعندما ألقى الصياد صنارته مرة أخرى وفيها طُعمٌ آخر جديد، أخذت السمكة الذكية تفكر بطريقة ذكية لتأكل بها الطُعم، كانت تقترب تارة وتبتعد تارة أخرى، تأخذ من هذا الجزء قضمة ومن الجزء الآخر قضمة أخرى، وكانت تحاول أن تكون حذرة بأقصى ما يمكن أن تكون، إلا أن الصياد كان أذكى منها، فراح يراقبها وفي لمحة البصر داهمها وأمسك بها ولم تستطع الخلاص، إلا أنها حاولت أن تتملص منه بكل طاقتها وقوتها وفي النهاية عضته في إصبعه، وقفزت إلى الترعة بأسرع ما يمكن وابتعدت بعد أن أُصيب زُعنفها بالكسر، ثم هربت.

عندما وصلت السمكة الذكية عند السمكة الحذرة العاقلة وهي تلهث خوفًا، أخبرتها بما حدث، فقالت السمكة العاقلة: الآن فقد أدركتِ أنني كنت على حق عندما هربت من الصياد، لقد خسرنا صديقتنا السمكة الجميلة المهملة الكسولة ولم تسمع النصيحة، وأنتِ أيضًا كاد الصياد أن يُمسك بك، وأرجو أن تكون قد تعلمتِ من هذا الدرس للمرات القادمة.

ولنتخيل إننا الآن من خلال هذه القصة أمام ثلاثة أنواع من الإدارات وربما حتى الأفراد في حياتهم اليومية، أو ربما حتى على مستوى الأنظمة العربية، فنحن ثلاث فئات، الفئة المهملة، والفئة الذكية والفئة العاقلة الحذرة.

فأما الفئة الأولى: فهي الإدارات والمؤسسات التي لا تخطط، وإنما تعيش بعفوية وسذاجة وفوضوية، فهي طوال النهار والليل تتحدث عن نفسها حتى وإن لم تفعل شيئًا، فتتحدث في الصحافة عن إنجازاها وأمجادها، وأنها صنعت من لا شيء إنجازات لم يكن يحلم بها المجتمع، وتحاول أن تتواصل مع الإعلاميين بأي طريقة كانت وأن تعمل صداقات معهم، ليس من أجل أي شيء مهم وإنما حتى تنقل تلك الوسائل الإعلامية عنها أن الإدارة أو تلك الفئة أو تلك المؤسسة العبقرية هي التي تمكنت من كل هذه الإنجازات.

ولكن ربما ينكشف كل هذا الوهم الذي خلقته هذه الإدارة وهذه المؤسسة عند أول مشكلة، ولا نقول أزمة فهذه الإدارات لا تصمد أمام الأزمات، فيظهر جليًا أمام كل الناس أنها خلقت وهمًا وخيوط دخان، وأنها مجرد فقاعة هوائية ارتفعت عن سطح الأرض ولكنها ما لبثت أن انفجرت فاكتشف الناس أنها طبل فارغ.

فالعالم العربي يعيش اليوم في كثير من المشاكل التي تحولت مع الأيام إلى أزمات اقتصادية واجتماعية، وعلى الرغم من ذلك فلا يتصدى لها أحد؛ فالبطالة أزمة، والأمن الغذائي أزمة، والأمن المائي أزمة، وإدارة الثروات الطبيعية أزمة، والمناطق ومدن العشوائية أزمة، والتسول أزمة، كل هذه الأزمات تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة ووضع الحلول الناجعة لها، ولكن سمكتنا تنتظر أن يُمدح جمالها وحسنها فقط.

أما الفئة الثانية: فهي إدارات أو مؤسسات ردود أفعال، وإن كانت تسمي نفسها في بعض الأحيان مؤسسات التي تعمل أثناء الأزمات، إلا أنها ليست كذلك، فهذه النوعية من الإدارات لا تخطط ولا تفكر إلا عندما تداهمها أزمة ما، وهذه تشبه إلى حد كبير معظم مؤسساتنا وأنظمتنا العربية، فمعظم هذه المؤسسات ليس لديها خطة مستقبلية، ولا رؤية، ولا أهداف ولا أولويات ولا حتى بوصلة يمكن أن تحدد أولوياتها ولا تعرف إلى أين تقودها الأيام، وإنما تسير وفق مجريات الأحداث، فتارة تذهب إلى الغرب وتارة إلى الشرق، وهذا يتملقها وذلك يحاول أن يبتزها، ولكنها تسير.

فمؤسساتنا الإدارية مثلاً عندما انتشرت موضة (الخطة الاستراتيجية) قامت كل المؤسسات واجتمعت من أجل وضع الخطط الاستراتيجية، ومن الجميل جدًا أن هذه الاستراتيجيات طُبعت في أوراق وكتب فخمة ووضعت في مكتبات المسؤولين، ولكن عندما تذهب وتتصفحها تجد أنها مجرد كلام إنشائي جميل وليست خطة، وعندما انتشرت موضة (التنمية المستدامة) ادعى الجميع في الوطن العربي أن جميع إنجازاته ومؤسساته كانت تعمل وفق أهداف التنمية المستدامة، وعندما جاءت موضة (الحوكمة) تحوكمنا، وعندما تحدث الجميع عن إدارة هندسة الأعمال (الهندرة) قلنا خذونا معكم، وهكذا هي هذه الفئة من الإدارات تعمل وفق ردود الفعل فقط، فلا توجد خطة طويلة المدى ولا قصيرة المدى، فهذه المؤسسات والإدارات لا تملك بوصلة الأولويات، وقد تنجح في إدارة بعض الأزمات ولكنها عادة ما تفشل، وعندما تنجح تملأ الدنيا عويلاً صاخبًا وبهرجة إعلامية، وعندما تفشل تسكت أو تبحث لها عن شماعة لتضع فشلها عليه، وتظل سمكتنا الثانية تبحث عن الحلول بعد أن تقع الكوارث من أجل الترقيع فقط.

أما الفئة الثالثة: فهي المؤسسات والإدارات العاقلة الحذرة، والتي تضع خططها الطويلة المدى قبل الخطط القصيرة المدى، ليس ذلك فحسب وإنما خططها دائمًا يعرفها كل العاملين في المؤسسة حتى إلى أصغر إنسان، فالجميع يعمل وفق تلك الخطط، والجميع يحاول بكل قدرة أن يحدد كل تلك الطموحات التي تحقق الخطط الموجودة، فالإنسان الموجود في هذا النظام لا يشعر بالرضا فقط وإنما بالاندماج التام مع النظام، فيشعر أنه هو النظام، وأن النظام هو، ليس من أجل التملق وما شابه ذلك، وإنما لأن النظام والمؤسسة والإدارة استطاعت أن تحقق كل طموحات هذا الإنسان واحتياجاته، لذلك فهو يعيش هذا الشعور، كل ذلك لأن هذه المؤسسة تعرف مستقبلها وتعرف إلى أين تريد أن تصل.

وحتى عندما تداهمها مشكلة أو أزمة فإنها تتصرف وفق حكمة وبذكاء، لأنها أصلاً لديها خططها الواضحة لإدارة تلك الأزمة إن أتت، فهي دائمًا مستعدة ودائمًا تعمل بحذر وذكاء وتتصرف وفق خطة محكمة وواضحة، فلا تستطيع الأهواء أو الأمواج حتى وإن كانت عاتية أن تجرفها معها، فأشرعتها عالية تقاوم الرياح ومقودها في يد فئة حكيمة من القادة التي تستطيع أن توازن الأمور، فئة مخلصة تفكر في اللحظة الآنية وفي المستقبل، من غير تحيز أو انحراف.

 

وفي كل الأحوال، أيًا ما كانت نوعية المؤسسة أو نوعية الإدارة التي أنت تديرها الآن فإن الاعتراف بالأخطاء هو مفتاح التحسن المستقبلي، وإنما التستر على الأخطاء لمجرد البهرجة الإعلامية فهي تورد المؤسسة أو الإدارة مورد الهلاك.


تواصل معنا


705907